الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الحمد لله، هؤلاء يجب قتالهم ما داموا ممتنعين حتى يلتزموا شرائع الإسلام؛ فإن النصيرية من أعظم الناس كفرًا بدون اتباعهم لمثل هذا الدجال، فكيف إذا اتبعوا مثل هذا الدجال؟! وهم مرتدون من أسوأ الناس ردة، تقتل مقاتلتهم، وتغنم أموالهم. وسبى الذرية فيه نزاع، لكن أكثر العلماء على أنه تسبى الصغار من أولاد المرتدين، وهذا هو الذى دلت عليه سيرة الصديق فى قتال المرتدين. وكذلك قد تنازع العلماء فى استرقاق المرتد، فطائفة تقول: إنها تسترق،/ كقول أبى حنيفة. وطائفة تقول: لا تسترق، كقول الشافعى وأحمد. والمعروف عن الصحابة هو الأول، وأنه تسترق منه المرتدات نساء المرتدين؛ فإن الحنفية التى تسرى بها على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ أم ابنه محمد بن الحنفية، من سبى بنى حنيفة المرتدين، الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ والصحابة لما بعث خالد ابن الوليد فى قتالهم. و[النصيرية] لا يكتمون أمرهم، بل هم معروفون عند جميع المسلمين، لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يصومون شهر رمضان، ولا يحجون البيت، ولا يؤدون الزكاة، ولا يقرون بوجوب ذلك، ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات، ويعتقدون أن الإله على بن أبى طالب، ويقولون: نشهـــد أن لا إلــه إلا ** حيـدرة الأنــزع البطـين ولا حجـاب عليــه إلا ** محمد الصـادق الأمـين ولا طـــريق إليـــه إلا ** سلمان ذو القـوة المتـين وأما إذا لم يظهروا الرفض، وأن هذا الكذاب هو المهدى المنتظر، وامتنعوا؛ فإنهم يقاتلون ـ أيضًا ـ لكن يقاتلون كما يقاتل الخوارج المارقون، الذين قاتلهم على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ بأمر رسول الله /صلى الله عليه وسلم، وكما يقاتل المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ـ رضى الله عنه. فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم التى لم يستعينوا بها على القتال. وأما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغير ذلك. ففى أخذه نزاع بين العلماء. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه نهب عسكره ما فى عسكر الخوارج. فإن رأى ولى الأمر أن يستبيح ما فى عسكرهم من المال كان هذا سائغًا. هذا ما داموا ممتنعين. فإن قدر عليهم؛ فإنه يجب أن يفرق شملهم، وتحسم مادة شرهم، وإلزامهم شرائع الإسلام، وقتل من أصر على الردة منهم. وأما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفرًا منه، وهو المنافق الذى تسميه الفقهاء [الزنديق]، فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب، كما هو مذهب مالك، وأحمد فى أظهر الروايتين عنه، وأحد القولين فى مذهب أبى حنيفة والشافعى. ومـن كـان داعيًا منهم إلى الضـلال لا ينكف شـره إلا بقتله قتل ـ أيضًا ـ وإن أظهر التـوبة، وإن لم يحكم بكفـره، كأئمة الرفض الذين يضلون الناس، كما قتل المسلمون غيلان القدرى، والجعد بن درهم، وأمثالهما من الدعاة. فهذا الدجال يقتل مطلقًا. والله أعلم.
/
فأجاب: نعم. يجوز، بل يجب بإجماع المسلمين قتال هؤلاء وأمثالهم من كل طائفة ممتنعة عن شـريعة من شـرائع الإسـلام الظاهرة /المتواترة؛ مثل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس، أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التى سماها الله ـ تعالى ـ فى كتابه، أو عن صيام شهر رمضان، أو الذين لا يمتنعون عن سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذى بعث الله به رسوله، كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فى مانعى الزكاة، وكما قاتل على بن أبى طالب وأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الخوارج، الذين قال فيهم النبى صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)، وذلك بقوله تعالى: ويدعون قبل القتال إلى التزام شرائع الإسلام، فإن التزموها استوثق منهم، ولم يكتف منهم بمجـرد الكلام. كما فعل أبو بكر بمن قاتلهم بعد أن أذلهم، وقال: اختاروا؛ إما الحرب المجلية وإمـا السلم المخزية، وقال: أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما السلم /المخزية؟ قال: تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، وننزع منكم الكُرَاع ـ يعنى الخيل والسلاح ـ حتى يرى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أمرًا بعد. فهكذا الواجب فى مثل هؤلاء إذا أظهروا الطاعة يرسل إليهم من يعلمهم شرائع الإسلام، ويقيم بهم الصلوات، وما ينتفعون به من شرائع الإسلام. وإما أن يستخدم بعض المطيعين منهم فى جند المسلمين، ويجعلهم فى جماعة المسلمين. وإما بأن ينزع منهم السلاح الذى يقاتلون به، ويمنعون من ركوب الخيل. وإما أنهم يضعوه حتى يستقيموا، وإما أن يقتل الممتنع منهم من التزام الشريعة. وإن لم يستجيبوا لله ولرسوله وجب قتالهم حتى يلتزموا شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين. والله أعلم.
فهل تكون هذه الأنساب التى اتصفوا بها مسوغة لهم تناول ما نالوه من ذلك، وأطلقه لهم ملوك الإسلام ونوابهم على وجه المصلحة، واستقر بأيديهم إلى الآن أم لا؟ وما حكم من ينزلهم بعدم الاستحقاق مع وجود هذه الصفات، وتقرب إلى السلطان بالسعى بقطع أرزاقهم، المؤدى إلى تعطيل الزوايا، ومعظم الزوايا والربط التى يرتفق بها أبناء السبيل وغيرهم من المجردين، ويقوم بها شعار الإسلام. هل يكون بذلك آثمًا عاصيًا أم لا؟ وهل يجب أن يكلف هؤلاء إثبات استحقاقهم مع كون ذلك مستقرًا بأيديهم من قبل أولى الأمـر؟ ولـو كلفوا ذلك ، فهل يتعين عليهم إثباته عنـد حاكـم بعينه ،/ غريب من بلادهـم ، متظاهر بمنافرتهم، مع وجود عدة من الحكام غيره فى بلادهم أو لا؟ وما حكم من عجز منهم عن الإثبات لضعفه عن إقامة البينة الشرعية؟ لما غلب عليه الحال من أن شهود هذا الزمان لا يؤدون شهادة إلا بأجرة ترضيهم، وقد يعجز الفقير عن مثلها، وكذلك النسوة اللاتى لا يعلم الشهود أحوالهن غالبًا. وإذا سـأل الإمـام حاكمـًا عـن استحقاق مـن ذكـر. فأجـاب بأنـه لايستحق مـن هـؤلاء المذكورين ومن يجرى مجراهم إلا الأعمى والمكسح والزمن لا غير، وأضرب عما سواهم من غير اطلاع على حقيقة أحوالهم. هل يكون بذلك آثمًا عاصيًا أم لا؟ وما الذى يجب عليه فى ذلك؟ وإذا سأله الإمام عن الزوايا والربط. هل يستحق من هو بها ما هو مرتب لهم؟ فأجاب بأن هذه الزوايا والربط دكاكين، ولاشك أن فيهم الصلحاء. والعلماء، وحملة الكتاب العزيز، والمنقطعين إلى الله ـ تعالى ـ هل يكون مؤذيًا لهم بذلك أم لا؟ وماحكم هذا القول المطلق فيهم ـ مع عدم المعرفة بجميعهم، والاطلاع على حقيقة أحوالهم بالكلية، إذا تبين سقوطه وبطلانه ـ هل تسقط بذلك روايته، وما عداها من أخباره أم لا؟ وهل للمقذوفين الدعوى عليه بهذا الطعن عليهم المؤدى عند الملوك إلى قطع أرزاقهم، وأن يكلفوه إثبات ذلك. وإذا عجز عن إثباته فهل لهم مطالبته /بمقتضاه أم لا؟ وإذا عجز عن ثبوت ذلك هل يكون قادحًا فى عدالته، وجرحه. ينعزل بها عن المناصب الدينية أم لا؟ ومن كانت هذه صفته لهذه الطائفة، وهم له فى غاية الكراهة، هل يجوز أن يؤم بهم، وقد جاء: (لا يؤم الرجل قومًا أكثرهم له كارهون؟). فأجاب: الحمد لله رب العالمين، هذه المسائل تحتاج إلى تقرير أصل جامع فى أموال بيت المال، مبنى على الكتاب والسنة التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، كما قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده أشياء. الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة على طاعة الله، ليس لأحد تغييرها، ولا النظر فى رأى من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). والواجب على ولاة الأمور وغيرهم من المسلمين العمل من ذلك/ بما عليهم، كما قال تعالى: ونحن نذكر ذلك مختصرًا فنقول: الأموال التى لها أصل فى كتاب الله التى يتولى قسمها ولاة الأمر ثلاثة: مال المغانم : وهـذا لمـن شهـد الوقعة ، إلا الخمس فإن مصرفـه مـا ذكره الله فى قوله : والثانى: الفىء: وهو الذى ذكره الله ـ تعالى ـ فى سورة الحشر، حيث قال: وهذا الفىء يدخل فيه جزية الرؤوس التى تؤخذ من أهل الذمة، ويدخل فيه ما يؤخذ منهم من العشور، وأنصاف العشور، وما يصالح عليه الكفار من المال، كالذى يحملونه، وغير ذلك. ويدخل فيه ما جلوا عنه وتركوه خوفًا من المسلمين، كأموال بنى النضير، التى أنزل الله فيها سورة الحشر وقال: /وذكر مصارف الفىء بقوله: وهذا الفىء لم يكن ملكًا للنبى صلى الله عليه وسلم فى حياته عند أكثر العلماء. وقال الشافعى وبعض أصحاب أحمد: كان ملكًا له. وأما مصرفه بعد موته، فقد اتفق العلماء على أن يصرف منه أرزاق الجند المقاتلين، الذين يقاتلون الكفار؛ فإن تقويتهم تذل الكفار، فيؤخذ منهم الفىء. وتنازعوا هل يصرف فى سائر مصالح المسلمين، أم تختص به المقاتلة؟ على قولين للشافعى، ووجهين فى مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور فى مذهبه، وهو مذهب أبى حنيفة ومالك: أنه لا يختص به المقاتلة، بل يصرف فى المصالح كلها. وعلى القولين، يعطى من فيه منفعة عامة لأهل الفىء؛ فإن الشافعى قال: ينبغى للإمام أن يخص من فى البلدان من المقاتلة، وهو من بلغ، ويحصى الذرية، وهى من دون ذلك، والنساء، إلى أن قال: ثم يعطى المقاتلة فى كل عام عطاءهم، ويعطى الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم. قال: والعطاء من الفىء لا يكون إلا لبالغ يطيق القتال. قال: ولم يختلف أحد ممن لقيه فى أنه ليس للمماليك فى العطاء حق، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة. قال: فإن فضل من الفىء شىء وضعه الإمام فى أهل الحصون، والازدياد فى الكُرَاع والسـلاح، وكل ما /يقـوى به المسـلمون. فإن استغنوا عنه وحصلت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى عنهم بينهم على قدر ما يستحقون من ذلك المال. قال: ويعطى من الفىء رزق العمال، والولاة، وكل مـن قام بأمر الفىء؛ من وال وحاكم، وكاتب وجندى ممن لا غنى لأهل الفىء عنه. وهذا مشكل مع قوله: إنه لا يعطى من الفىء صبى ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال؛ لأنه للمجاهدين. وهـذا إذا كان للمصالح، فيصرف منـه إلى كـل مـن للمسلمين بـه منفعـة عامـة، كالمجاهدين، وكولاة أمورهم؛ من ولاة الحرب، وولاة الديوان، وولاة الحكم، ومن يقرئهم القرآن، ويفتيهم، ويحدثهم، ويؤمهم فى صلاتهم، ويؤذن لهم. ويصرف منه فى سداد ثغورهم وعمارة طرقاتهم وحصونهم، ويصرف منه إلى ذوى الحاجات منهم ـ أيضًا ـ ويبدأ فيه بالأهم فالأهم؛ فيقدم ذوو المنافع الذين يحتاج المسلمون إليهم على ذوى الحاجات الذين لا منفعة فيهم. هكذا نص عليه عامة الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم. قال أصحاب أبى حنيفة يصرف فى المصالح ما يسد بها الثغور من القناطر والجسور، ويعطى قضاة المسلمين ما يكفيهم، ويدفع منه أرزاق المقاتلة، وذوو الحاجات يعطون من الزكوات ونحوها. وما فضل عن /منافع المسلمين قسم بينهم؛ لكن مذهب الشافعى وبعض أصحاب أحمد: أنه ليس للأغنياء الذين لا منفعة للمسلمين بهم فيه حق، إذا فضل المال واتسع عن حاجات المسلمين، كما فعل عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ لما كثر المال أعطى منهم عامة المسلمين، فكان لجميع أصناف المسلمين فرض فى ديوان عمر بن الخطاب؛ غنيهم، وفقيرهم، لكن كان أهل الديوان نوعين: مقاتلة، وهم البالغون، وذرية، وهم الصغار، والنساء الذين ليسوا من أهل القتال، ومع هذا فالواجب تقديم الفقراء على الأغنياء الذين لا منفعة فيهم، فلا يعطى غنى شيئًا حتى يفضل عن الفقراء. هذا مذهب الجمهور كمالك وأحمد فى الصحيح من الروايتين عنه. ومذهب الشافعى ـ كما تقدم ـ تخصيص الفقراء بالفاضل. وأما المال الثالث فهو: الصدقات التى هى زكاة أموال المسلمين: زكاة الحرث، وهى العشـور، وأنصاف العشـور؛ المأخـوذة من الحبوب والثمار، وزكاة الماشية، وهى الإبل والبقر والغنم، وزكـاة التجارة، وزكاة النقـدين، فهـذا المال مصرفـه مـا ذكره الله ـ تعالى ـ فى قوله: إذا تبين هذا الأصل، فنذكر أصلاً آخر، ونقول: أموال بيت المال فى مثل هذه الأزمنة هى أصناف: صنف منها هو من الفىء، أو الصدقات، أو الخمس. فهذا قد عرف حكمه. وصنف صار إلى بيت المال بحق من غير هذه؛ مثل من مات من المسلمين ولا وارث له. ومن ذلك ما فيه نزاع، ومنه ما هو متفق عليه. وصنف قبض بغير حق أو بتأويل ، يجب رده إلى مستحقه إذا أمكن وقد تعذر ذلك. مثل مـا يؤخـذ مـن مصادرات العمال وغيرهم، الذين أخذوا من الهدايا، وأموال المسـلمين ما لا يسـتحقونه، فاسترجعه ولى الأمر منهم، أو من تركاتهم، ولم يعرف مستحقه. ومثل ما قبض من الوظائف المحدثة وتعذر رده إلى أصحابه، وأمثال ذلك. فهذه الأموال التى تعذر ردها إلى أهلها لعدم العلم بهم مثلاً، هى مما يصرف فى مصالح المسلمين عند أكثر العلماء. وكذلك من كان عنده مال لا يعرف صاحبه، كالغاصب التائب، والخائن التائب، والمرابى التائب، ونحوهم ممن صار بيده مال لا يملكه ولا يعرف صاحبه؛ فإنه / يصرفه إلى ذوى الحاجات، ومصالح المسلمين. إذا تبين هذان الأصلان، فنقول: من كان من ذوى الحاجات؛ كالفقراء، والمساكين، والغارمين، وابن السبيل، فهؤلاء يجوز؛ بل يجب أن يعطوا من الزكوات، ومن الأموال المجهولة باتفاق المسلمين. وكذلك يعطوا من الفىء مما فضل عن المصالح العامة التى لابد منها عند أكثر العلماء، كما تقدم. سواء كانوا مشتغلين بالعلم الواجب على الكفاية أو لم يكونوا، وسواء كانوا فى زوايا، أو ربط، أو لم يكونوا، لكن من كان مميزًا بعلم أو دين كان مقدمًا على غيره. وأحق هذا الصنف من ذكرهم الله بقوله: والفقير الشرعى المذكور فى الكتاب والسنة الذى يستحق من الزكاة والمصالح ونحوهما ليس هو الفقير الاصطلاحى الذى يتقيد بلبسة / معينة، وطريقة معينة، بل كل من ليس له كفاية تكفيه وتكفى عياله فهو من الفقراء والمساكين. ومن كان من هؤلاء كلهم مؤمنًا تقياً كان لله وليًا؛ فإن أولياء الله الذين: وعلى ولاة الأمور مع إعطاء الفقراء، بل والأغنياء، بأن يلزموا هؤلاء باتباع الكتاب والسـنة، وطاعة اللّه ورسولـه، ولا يمكنوا أحـداً مـن الخروج مـن ذلك، ولو ادعى مـن الدعاوى ما ادعاه، ولو زعم أنه يطير فى الهواء، أو يمشى على الماء. ومن كان من الفقراء الذين لم تشغلهم منفعة عامة للمسلمين عن الكسب، قادرا عليه، لم يجز أن يعطى من الزكاة عند الشافعى وأحمد. وجوز ذلك أبو حنيفة. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لقوى مكتسب)، ولايجوز أن يعطى من الزكاة من يصنع بها دعوة وضيافة للفقراء، ولا يقيم بها سماطا، لا لوارد، ولا غير وارد، بل يجب أن يعطى ملكا للفقير المحتاج، بحيث ينفقها على نفسه وعياله فى بيته إن شاء، ويقضى منها ديونه، ويصرفها / فى حاجاته. وليس فى المسلمين من ينكر صرف الصدقات وفاضل أموال المصالح إلى الفقراء والمساكين. ومن نقل عنه ذلك فإما أن يكون من أجهل الناس بالعلم، وإما أن يكون من أعظم الناس كفرا بالدين، بل بسائر الملل والشرائع، أو يكون النقل عنه كذبا أو محرفا. فأما من هو متوسط فى علم ودين فلا يخفى عليه ذلك ولا ينهى عن ذلك. ولكن قد اختلط فى هذه الأموال المرتبة السلطانية الحق والباطل. فأقوام كثيرون من ذوى الحاجات والدين والعلم لا يعطى أحدهم كفايته، ويتمزق جوعا وهو لا يسأل، ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه. وأقوام كثيرون يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل اللّه. وقوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم. وقوم لهم رواتب مع غناهم وعدم حاجاتهم. وقوم ينالون جهات كمساجد وغيرها، فيأخذون معلومها ويستثنون من يعطون شيئا يسيرا. وأقوام فى الربط والزوايا يأخذون ما لا يستحقون، ويأخذون فوق حقهم، ويمنعون من هو أحق منهم حقه أو تمام حقه. وهذا موجود فى مواضع كثيرة. ولا يستريب مسلم أن السعى فى تمييز المستحق من غيره، وإعطاء الولايات والأرزاق من هو أحق بها، والعدل بين الناس فى ذلك، /وفعله بحسب الإمكان ـ هو من أفضل أعمال ولاة الأمور، بل ومن أوجبها عليهم؛ فإن اللّه يأمر بالعدل والإحسان، والعدل واجب على كل أحد فى كل شىء. وكما أن النظر فى الجند المقاتلة، والتعديل بينهم، وزيادة من يستحق الزيادة، ونقصان من يستحق النقصان، وإعطاء العاجز عن الجهاد من جهة أخرى، هو من أحسن أفعال ولاة الأمور وأوجبها، فكذلك النظر فى حال سائر المرتزقين من أموال الفىء، والصدقات، والمصالح، والوقوف، والعدل بينهم فى ذلك، وإعطاء المستحق تمام كفايته، ومنع من دخل فى المستحقين وليس منهم من أن يزاحمهم فى أرزاقهم. وإذا ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى، وطلب الأخذ من الصدقات، فإنه يجوز للإمام أن يعطيه بلا بينة، بعد أن يعلمه أنه لا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم سأله رجلان من الصدقة، فلما رآهما جلدين صَعَّد فيهما النظر وصَوَّبه. فقال: (إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب). وأما إن ذكر أن له عيالا، فهل يفتقر إلى بينة؟ فيه قولان للعلماء مشهوران، هما قولان فى مذهب الشافعى وأحمد. وإذا رأى الإمام قول من يقول فيه: يفتقر إلى بينة. فلا نزاع بين العلماء أنـه لا يجب أن تكـون البينـة مـن الشهود المعـدلين، بل يجب أنهم لم يرتزقوا /على أداء الشهادة، فترد شهادتهم إذا أخذوا عليها رزقا، لا سيما مع العلم بكثرة من يشهد بالزور؛ ولهذا كانت العادة أن الشهود فى الشام المرتزقة بالشهادة لا يشهدون فى الاجتهاديات، كالأعشار، والرشد، والعدالة، والأهلية، والاستحقاق، ونحو ذلك، بل يشهدون بالحسيات كالذى سمعوه ورأوه، فإن الشهادة بالاجتهاديات يدخلها التأويل والتهم، فالجُعْل يسهل الشهادة فيها بغير تحر، بخلاف الحسيات؛ فإن الزيادة فيها كذب صريح، لا يقدم عليه إلا من يقدم على صريح الزور. وهؤلاء أقل من غيرهم، بل إذا أتى الواحد من هؤلاء بمن يعرف صدقه من جيرانه ومعارفه وأهل الخبرة الباطنة به قبل ذلك منهم. وإطلاق القول بأن جميع من بالربط والزوايا غير مستحقين باطل، ظاهر البطلان. كما أن إطلاق القول بأن كل من فيهم مستحق لما يأخذه هو باطل أيضا، فلا هذا، ولا هذا، بل فيهم المستحق الذى يأخذ حقه، وفيهم من يأخذ فوق حقه، وفيهم من لا يعطى إلا دون حقه، وفيهم غير المستحق. حتى إنهم فى الطعام الذى يشتركون فيه يعطى أحدهم أفضل مما يعطى الآخر، وإن كان أغنى منه، خلاف ما جرت عادة أهل العدل الذين يسوون فى الطعام بالعدل، كما يعمل فى رباطات أهل العدل. وأمر ولى الأمر هؤلاء بجميع ما ذكر هو من أفضل العبادات، وأعظم الواجبات. /ومـا ذكر عـن بعض الحكام، مـن أنـه لا يستحق مـن هـؤلاء إلا الأعمى، والمكسـح، والزمن ـ قول لم يقله أحد من المسلمين، ولا يتصور أن يقول هذا حاكم ممن جرت العادة بأن يتولى الحكم، اللهم إلا أن يكون من أجهل الناس، أو أفجرهم. فمعلوم أن ذلك يقدح فى عدالته، وأنه يجب أن يستدل به على جرحه، كما أنه إن كان الناقل لهذا عن حاكم قد كذب عليه، فينبغى أن يعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله من المفترين على الناس. وعقوبة الإمام للكذاب المفترى على الناس، والمتكلم فيهم، وفى استحقاقهم، لما يخالف دين الإسلام، لا يحتاج إلى دعواهم، بل العقوبة فى ذلك جائزة بدون دعوى أحد كعقوبته لمن يتكلم فى الدين بلا علم، فيحدث بلا علم، ويفتى بلا علم، وأمثال هؤلاء يعاقبون. فعقوبة كل هؤلاء جائزة بدون دعوى. فإن الكذب على الناس، والتكلم فى الدين، وفى الناس بغير حق، كثير فى كثير من الناس. فمن قال: إنه لا يستحق إلا الأعمى، والزمن، والمكسح ـ فقد أخطأ باتقاق المسلمين. وكذلك مـن قـال: إن أمـوال بيت المـال على اختـلاف أصنافها مستحقـة لأصناف، منهم الفقراء، وأنه يجب على الإمام إطلاق كفايتهم من بيت المال ـ فقد أخطأ، بل يستحقون من الزكوات بلا ريب.وأما من الفىء والمصالح فلا يستحقون إلا ما فضل عن /المصالح العامة. ولو قدر أنه لم يصلح لهم من الزكوات ما يكفيهم، وأموال بيت المال مستغرقة بالمصالح العامة، كان إعطاء العاجز منهم عن الكسب فرضاً على الكفاية. فعلى المسلمين جميعا أن يطعموا الجائع، ويكسوا العارى، ولا يدعوا بينهم محتاجاً. وعلى الإمام أن يصرف ذلك من المال المشترك الفاضل عن المصالح العامة التى لابد منها. وأما من يأخذ بمصلحة عامة، فإنه يأخذ من حاجته باتفاق المسلمين. وهل له أن يأخذ مع الغنى ـ كالقاضى، والشاهد، والمفتى، والحاسب، والمقرى، والمحدث إذا كان غنياً؟ فهل له أن يرتزق على ذلك من بيت المال مع غناه ؟ ـ قولان مشهوران للعلماء. وكذلك قول القائل: إن عناية الإمام بأهل الحاجات تجب أن تكون فوق عنايته بأهل المصالح العامة التى لابد للناس منها فى دينهم ودنياهم، كالجهاد، والولاية، والعلم ـ ليس بمستقيم لوجوه: أحدها: أن العلماء قد نصوا على أنه يجب فى مال الفىء والمصالح أن يقدم أهل المنفعة العامة. وأما مال الصدقات فيأخذه نوعان: نوع يأخذ بحاجته، كالفقراء، والمساكين، والغارمين لمصلحة أنفسهم، وابن السبيل، وقوم يأخذون لمنفعتهم، كالعاملين، والغارمين فى إصلاح ذات البين، كمن فيه نفع عام، كالمقاتلة، وولاة أمورهم، وفى سبيل /اللّه. وليس أحد الصنفين أحق من الآخر، بل لابد من هذا وهذا. الثانى: أن ما يذكره كثير من القائمين بالمصالح من الجهاد والولايات والعلم من فساد النية معارض بما يوجد فى كثير من ذوى الحاجات من الفسق والزندقة. وكما أن من ذوى الحاجات صالحين أولياء للّه، ففى المجاهدين والعلماء أولياء للّه، وأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون، من أى صنف كانوا. ومن كان من أولياء اللّه من أهل الجهاد والعلم، كان أفضل من لم يكن من هؤلاء. فإن سادات أولياء اللّه من المهاجرين والأنصار كانوا كذلك. وقول القائل: اليوم فى زماننا كثير من المجاهدين والعلماء إنما يتخذون الجهاد والقتال والاشتغال بالعلم معيشة دنيوية، يحامون بها عن الجاه والمال، وأنهم عصاة بقتالهم واشتغالهم، مع انضمام معاص ومصائب أخرى لا يتسع الحال لها. والمجاهد لتكون كلمة اللّه هى العليا، والمعلم ليكون التعلم محض التقرب، قليل الوجود أو مفقود. فلا ريب أن الإخلاص واتباع السنة فيمن لا يأكل أموال الناس أكثر ممن يأكل الأموال بذلك؛ بل والزندقة، نعارضه بما هو أصدق منه، وهو أن يقال: كثير من أهل الربط والزوايا والمتظاهرين للناس بالفقر إنما يتخذون ذلك معيشة دنيوية، هذا مع انضمام كفر وفسوق ومصائب لا يتسع الحال لقولها، بمثل دعوى الحلول والاتحاد فى /العباد أكثر منها فى أهل العلم والجهاد. وكذلك التقرب إلى اللّه بالعبادات البدعية. ومعلوم أنه فى كل طائفة بار وفاجر، وصديق وزنديق. والواجب موالاة أولياء اللّه المتقين من جميع الأصناف،وبغض الكفار والمنافقين من جميع الأصناف، والفاسق المِلِّىّ يعطى من الموالاة بقدر إيمانه، ويعطى من المعاداة بقدر فسقه؛ فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الفاسق الملى له الثواب والعقاب، إذا لم يعف اللّه عنه. وأنه لابد أن يدخل النار من الفساق من شاء اللّه، وإن كان لا يخلد فى النار أحد من أهل الإيمان، بل يخلد فيها المنافقون، كما يخلد فيها المتظاهرون بالكفر. الوجه الثالث: أن يقال: غالب الذين يأخذون لمنفعة المسلمين من الجند وأهل العلم ونحوهم محاويج أيضاً، بل غالبهم ليس له رزق إلا العطاء. ومن يأخذ للمنفعة والحاجة أولى ممن يأخذ بمجرد الحاجة. الوجه الرابع: أن يقال: العطاء إذا كان لمنفعة المسلمين لم ينظر إلى الآخذ هل هو صالح النية أو فاسدها. ولو أن الإمام أعطى ذوى الحاجات العاجزين عن القتال، وترك إعطاء المقاتلة حتى يصلحوا نياتهم لأهل الإسلام، لاستولى الكفار على بلاد الإسلام؛ فإن تعليق العطايا /فى القلوب متعذر. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم)، وقال: (إنى لأعطى رجالاً وأدع رجالا، والذين أدع أحب إلىَّ من الذين أعطى. أعطى رجالاً لما فى قلوبهم من الهَلَع والجَزَع، وأكِلُ رجالا لما فى قلوبهم من الغنى والخير)، وقال: (إنى لأعطى أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً). قالوا: يارسول اللّه، فلم تعطيهم؟ قال: (يأبون إلا أن يسألونى ويأبى اللّه لى البخل). ولما كان عام حنين قسم غنائم حنين بين المؤلفة قلوبهم من أهل نجد والطلقاء من قريش، كعيينة بن حصن، والعباس بن مرداس، والأقرع بن حابس، وأمثالهم. وبين سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل، وأبى سفيان بن حرب وابنه معاوية، وأمثالهم من الطلقاء الذين أطلقهم عام الفتح، ولم يعط المهاجرين والأنصار شيئاً. أعطاهم ليتألف بذلك قلوبهم على الإسلام، وتأليفهم عليه مصلحة عامة للمسلمين. والذين لم يعطهم هم أفضل عنده، وهم سادات أولياء اللّه المتقين، وأفضل عباد اللّه الصالحين بعد النبيين والمرسلين، والذين أعطاهم منهم من ارتد عن الإسلام قبل موته، وعامتهم أغنياء لا فقراء. فلو كان العطاء للحاجة مقدما على العطاء للمصلحة العامة لم يعط النبى صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأغنياء السادة المطاعين فى عشائرهم، ويدع عطاء من عنده من /المهاجرين والأنصار الذين هم أحوج منهم وأفضل. وبمثل هذا طعن الخوارج على النبى صلى الله عليه وسلم. وقال له أولهم: يا محمد، اعدل فإنك لم تعدل، وقال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه اللّه ـ تعالى ـ حتى قال النبى صلى الله عليه وسلم: (ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟! لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعـدل). فقال له بعض الصحابة: دعنى أضرب عنق هذا. فقال: (إنه يخرج من ضِئضِئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجراً عند اللّه لمن قتلهم يوم القيمة)، وفى رواية: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وهؤلاء خرجوا على عهد أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضى اللّه عنه ـ فقتل الذين قاتلوه جميعهم، مع كثرة صومهم وصلاتهم وقراءتهم. فأخرجوا عن السنة والجماعة. وهم قوم لهم عبادة، وورع، وزهد، لكن بغير علم. فاقتضى ذلك عندهم أن العطاء لا يكون إلا لذوى الحاجات، وأن إعطاء السادة المطاعين الأغنياء لا يصلح لغير اللّه بزعمهم. وهذا من جهلهم؛ فإن العطاء إنما هو بحسب مصلحة دين اللّه. فكلما كان للّه أطوع ولدين اللّه أنفع، كان العطاء فيه أولى. وعطاء /محتاج إليه فى إقامة الدين وقمع أعدائه وإظهاره وإعلائه أعظم من إعطاء من لا يكون كذلك، وإن كان الثانى أحوج. وقول القائل: إن هذه القيود على مذهب الشافعى دون مذهب مالك، وما نقله من مذهب عمر ـ فهذا يحتاج إلى معرفة بمذاهب الأئمة فى ذلك، وسيرة الخلفاء فى العطاء. وأصل ذلك أن الأرض إذا فتحت عنوة ففيها للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: ـ وهو مذهب الشافعى ـ: أنه يجب قسمها بين الغانمين، إلا أن يستطيب أنفسهم فيقفها، وذكر فى [الأم] أنه لو حكم حاكم بوقفها من غير طيب أنفسهم نقض حكمه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بين الغانمين، لكن جمهور الأئمة خالفوا الشافعى فى ذلك، ورأوا أن ما فعله عمر بن الخطاب من جعل الأرض المفتوحة عنوة فيئا حسن جائز، وأن عمر حبسها بدون استطابة أنفس الغانمين. ولا نزاع أن كل أرض فتحها عمر بالشام عنوة. والعراق ومصر وغيرها لم يقسمها عمر بين الغانمين، وإنما قسم المنقولات، لكن قال مالك وطائفة ـ وهو القول الثانى ـ: إنها مختصة بأهل الحديبية. وقد صنف إسماعيل بن إسحاق إمام المالكية فى ذلك بما نازع به الشافعى فى هذه المسألة، وتكلم على حججه. وعن الإمام أحمد كالقولين، لكن المشهور فى مذهبه هو القول /الثالث، وهو مذهب الأكثرين؛ أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، وأبى عبيد: وهو أن الإمام يفعل فيها ماهو أصلح للمسلمين من قسمها أو حبسها؛ فإن رأى قسمها كما قسم النبى صلى الله عليه وسلم خيبر فعل، وإن رأى أن يدعها فيئا للمسلمين فعل، كما فعل عمر، وكما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم فعل بنصف خيبر،وأنه قسم نصفها،وحبس نصفها لنوائبه، وأنه فتح مكة عنوة ولم يقسمها بين الغانمين. فعلم أن أرض العنوة يجوز قسمها، ويجوز ترك قسمها. وقد صنف فى ذلك مصنفا كبيراً. إذا عرف ذلك، فمصر هى مما فتح عنوة، ولم يقسمها عمر بين الغانمين، كما صرح بذلك أئمة المذاهب، من الحنفية، والمالكية، والحنبلية، والشافعية، لكن تنقلت أحوالها بعد ذلك، كما تنقلت أحوال العراق. فإن خلفاء بنى العباس نقلوه إلى المقاسمة بعد المخارجة، وهذا جائز فى أحد قولى العلماء. وكذلك مصر رفع عنها الخراج من مدة لا أعلم ابتداءها، وصارت الرقبة للمسلمين، وهذا جائز فى أحد قولى العلماء. وأما مذهب عمر فى الفىء ويروى أن عمر فى آخر عمره قال: لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس ببانا واحدا، أى: ماية واحدة، أى: صنفا واحدا. وتفضيله كان بالأسباب الأربعة التى ذكرها: الرجل وبلاؤه، وهو الذى يجتهد فى قتال الأعداء. والرجل وغناؤه، وهو الذى يغنى عن المسلمين فى مصالحهم لولاة أمورهم ومعلميهم، وأمثال هؤلاء. والرجل وسابقته، وهو من كان من السابقين الأولين؛ فإنه كان يفضلهم فى العطاء على غيرهم. والرجل وفاقته، فإنه كان يقدم الفقراء على الأغنياء، وهذا ظاهر؛ فإنه مع وجود المحتاجين كيف يحرم بعضهم ويعطى لغنى لا حاجة له ولا منفعة به، لا سيما إذا ضاقت أموال بيت المال عن إعطاء كل المسلمين غنيهم وفقيرهم، فكيف يجوز أن يعطى الغنى الذى /ليس فيه نفع عام، ويحرم الفقير المحتاج، بل الفقير النافع. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه أعطى من أموال بنى النضير، وكانت للمهاجرين، لفقيرهم، ولم يعط الأنصار منها شيئا؛ لغناهم إلا أنه أعطى بعض الأنصار لفقره. وفى السنن: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه مال أعطى الآهل قسمين والعزب قسما. فيفضل المتأهل على المتعزب؛ لأنه محتاج إلى نفقة نفسه، ونفقة امرأته. والحديث رواه أبو داود وأبو حاتم فى صحيحه، والإمام أحمد فى رواية أبى طالب وقال: حديث حسن، ولفظه عن عوف بن مالك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الفىء قسمه من يومه، فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا. وحديث عمر رواه أحمد وأبو داود. ولفظ أبى داود عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: ذكر عمر يوما الفىء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفىء منكم وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب اللّه. الرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وغناؤه، والرجل وحاجته. ولفظ أحمد قال: كان عمر يحلف على أيمان ثلاث: واللّه ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، واللّه ما من المسلمين أحد إلا وله فى هذا المال نصيب إلا عبداً مملوكاً، ولكنا على منازلنا من كتاب اللّه. فالرجل وبلاؤه فى الإسلام، والرجل /وقدمه، والرجل وغناؤه فى الإسلام، والرجل وحاجته. واللّه لئن بقيت لهم لأوتين الراعى بجبل صنعاء حظه فى هذا المال وهو يرعى مكانه. فهذا كلام عمر الذى يذكر فيه بأن لكل مسلم حقا. يذكر فيه تقديم أهل الحاجات. ولا يختلف اثنان من المسلمين أنه لا يجوز أن يعطى الأغنياء الذين لا منفعة لهم ويحرم الفقراء؛ فإن هذا مضاد لقوله تعالى: وأما نقل الناقل مذهب مالك بأن فى [المدونة] وجزية جماجم أهل الذمة، وخراج الأرضين ما كان منها عنوة أو صلحا. فهو عند مالك جزية. والجزية عنده فىء. قال: ويعطى هذا الفىء أهل كل بلد افتتحوها عنوة أو صالحوا عليها، فيقسم عليهم، ويفضل بعض الناس على بعض من الفىء، ويبدأ بأهل الحاجة حتى يغنوا منه، ولا يخرج إلى غيرهم إلا أن ينزل بقوم حاجة فينقل إليهم بعد أن يعطى أهله منه ما يغنيهم عن الاجتهاد. وقال أيضا: قال مالك: وأما جزية الأرض فما أدرى كيف كان يصنع فيها، إلا أن عمر قد أقر الأرض فلم يقسمها بين الذين افتتحوها. وأرى لمن ينزل ذلك أن يكشف عنه /من يرضاه، فإن وجد عالماً يستفتيه وإلا اجتهد هو ومن بحضرته رأساً. لكن إن كان الإحياء فى أرض الخراج، فهل يملك بالإحياء ولا خراج عليه، أو يكون بيده وعليه الخراج؟ على قولين للعلماء. هما روايتان عن أحمد. وأما من قتل أو مات من المقاتلة فإنه ترزق امرأته وأولاده الصغار. وفى مذهب أحمد والشافعى فى أحد قوليه وغيرهما: فينفق على امرأته حتى تتزوج وعلى ابنته الصغيرة حتى تتزوج وعلى ابنه الصغير حتى يبلغ. ثم يجعل من المقاتلة إن كان يصلح للقتال؛ وإلا إن كان من أهل الحاجة والذين يعطون من الصدقة وفاضل الفىء والمصالح، أعطى له من ذلك وإلا فلا.
|